Featured Video

mercredi 16 septembre 2015

عقدة الكتابة وهدر الزمن القرائي الوطني

      

عقدة الكتابة وهدر الزمن القرائي الوطني

كثير من الناس يقرؤون كتب غيرهم بِنَهَم في مقابل ذلك يَعجزون عن كتابة  وإنتاج ولو نص يتيم خاص بهم. سِلبية هذا النوع تكمن في عدم قدرة هذا الصنف من الناس على بلورة تصور للعوالم المحيطة بهم والغائبة عنهم والتي تنتظرهم بناء على الكتب التي اطلعوا عليها. ألا يمكن وصف هذا المشهد بالهدر البشع للزمن القرائي الوطني؟
بشاعة المشهد تتفاقم إذا علمنا أن هذا الصنف من القراء لا يُكلف نفسه عناء تلخيص وتحليل ونقد ذلك الكم الهائل من” المَقروءات ” و”المَقروئيات” (الكتب المقروءة و المحتمل قراءتها) لينتفع بها أي قارئ آخر فما بالك بإنتاج نص ثاني جديد مُكمل أو مُشابه أو مُغاير أو مُستحدث/مُبتدع يُغْني ويُفند ويُنافس أو يَتجاوز النص الأول القديم.
إنها حتمًا عقدة الكتابة التي تتجاوز نتائجها الوخيمة الذات القارئة لتصل إلى الوطن بأكمله نظرا لحاجة هذا الأخير للاستفادة من كل أزمنته القرائية التي يُمارسها أفراده بدل هدرها ببشاعة وطول قراءة ومطالعة لا يُتوخى منها كتابة وإنتاج ! معنى ذلك هو أن قيمة ونجاح مشروع قرائي معين يتطلب رصد ميزانية زمنية للقراءة موازاة مع أخرى لا يُستهان بها تتوخى الإنتاجية الفكرية والإبداعية لتحقيق مشروع الكتابة. لكن ما السبيل نحو حَل عقدة الكتابة لتفادي الهدر البشع للزمن القرائي الوطني؟
يتساءل آلاف القراء بانبطاح شديد عن كيفية بل استحالة مجاراة أساليب وإيقاعات الكتابة والإبداع ومقدار الإنتاج لدى الكتاب  الذين تجاوزوا عقدة الكتابة ودخلوا حيز الزمن الطبيعي (الحتمي أصلا والمنفي وفق ذرائع غير منطقية من طرف ضحايا عقدة الكتابة) لِمَا بعد القراءة و المطالعة.

يُردد أحدهم بخنوع شديد يبقيه في خندق القراءة و المطالعة فقط ويَستفزه ويُرهبه بعقدة اسمها عقدة الكتابة و الانبثاق الإبداعي: “مهما قَرَأتُ كل أعمال شكسبير و موليير و شارل بودلير و تشارلز ديكنز و ليو تولستوي  و غيرهم فلن أكتب مثل ما كتبه هؤلاء أبدا! أنا عاجز عن الكتابة والانفجار إبداعًا. عاجز عن بصق كل الأفكار والمخاوف والعوالم السلبية التي تأرق داخلي! عاجز عن رسم وخط أحلامي وانتظاراتي وتمثلاتي الشخصية الإيجابية… سأظل أقرأ فقط حتى يُصْبحَ الصباح وسأستمر بعد ذلك في القراءة”.
تمر عقود والقارئ-فقط وكل المتمذهبين بمذهبه الذين يبدءون وينتهون بالقراءة ليعاودوا كما بدأوا وكما انتهوا دون أن يَكتبوا كتابا أو نصا يتيمًا ماضون على حالهم المعتاد حتى انتفض الوطن ذات زمن وطني حرج وصرخ  في وجههم قائلًا: “من أمركم بالإتيان بمثل ما كتبه كتاب العالم عددًا وطريقة وشَبَهًا؟  أنا الوطن الذي يَحتضر جهلا ” ُاواطِنُكُمْ ” (أناشدكم انكسارًا) بحق تاريخي ولساني وكبريائي وترابي ورموزي وشهدائي أن تفعلوا فقط كما فعل شكسبير وغيره: أن تكتبوا ، أن تدمنوا حمل القلم بُغية الانبعاث وسط رماد النقل والتقليد والتكرار والتآكل! أنا لم ولن أمنعكم من القراءة لكن لا تقفوا عندها فقط. أنا الوطن بحاجة إلى الجميع: الكِتاب-الكِتابَة والكاتب-القارئ حتى أتمكن من التجدد والتطور والتوهج! صمتكم (لا إبداعكم) الرهيب يدمر كياني ويمزق أطرافي المسكونة بالغازٍ كالكنوز. حالة اللاكتابة هذه تفجرني قرونا إلى الوراء، تغتال بصيص الأمل المنثور في بضع ريشات لا تزال تكتب، تبدع، تتألم من أجل انبثاقي و تحرري!”.
جدلية الكتابة و الوطن
يحتضننا وطن واحد اسمه الوطن. تتعدد وسائل وطرق وصفات احتضانه لنا كأفراد و جماعات. أبرزها طبعا الثقافة واللغة والتاريخ. إنه ثالوث يقوي تشبثنا وانتماءنا لهذا النطاق النفسي-الاجتماعي-التاريخي-الوجودي في الوقت نفسه يؤدي تصدع ركن من أركانه إلى قلق وجودي دائم لن يزول حتى يتم رأب ذلك الصدع.  لكن كيف سيستمر الوطن  الحقيقي إذا اختفى  تاريخه الحقيقي مثلا؟ ألن تكون إعادة “كتابة” ذلك التاريخ الملاذ الآمن لبعث مثل هذا الوطن؟ هناك لغات وطنية تقاوم كل أشكال الانقراض والاجتثاث. بَعْضها استسلم للغات المُكْتسِحَة بعد طول صراع والبعض الآخر قاب قوسين أو أدنى من الخنوع لشبح الزوال. يبقى الحل في كِلْتا الوضعيتين هو إعادة إحياء تلك اللغات دون تمييز عبر آلية “الكتابة” لأن الوطن بدون لغته/لغاته الحقيقية يبقى وهما، سرابا، مسرحية ولا وطناً.
اللغة وعاء الثقافة وتجسيدها وضامنة استمرارها وحاملتها إلى الأجيال المتعاقبة. لذلك، فكتابة لغة أو لغات  يعني إحياء لثقافة ولثقافات خلفها إنسان معين كان أو لا يزال يعيش في وطن محدد. إحياء تاريخ ولغة وثقافة وطن ما هو بالضرورة بعث لإنسانه وإعادة الاعتبار الحضاري له. وحدها الكتابة إذن تستطيع القيام بهذا الأمر بنجاح خاصة إذا انطلقت من قراءة ما هو “مكتوب” سلفا
عقدة الكتابة مرة أخرى
إن  أوّل ما نزل من القرآن  الآيات الخمس الأولى من سورة العلق، وهي قوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق].  وهي آيات تدل على أن الله عز و جل شرف الإنسان بقدرات تميزه عن باقي المخلوقات وهي القراءة والعلم والتفكير … إلخ.
لكن هل القراءة وحدها تكفي؟ ألا تحتاج إلى الكتابة كتابع ومكمل لها؟
يتضح أن أولى آيات سورة العلق يبدأ بالحث على القراءة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)}  و بعدها تأتي الآيات التالية : { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}.
 ما وظيفة القلم إذن؟  أليست الكتابة؟ ألم تبدأ السورة بأمر القراءة لتأتي الآية الرابعة بعد ذلك لتتضمن إحدى أهم آليات الكتابة(القلم)؟ ما الحكمة الربانية من تسلسل وتتابع القراءة (اقرأ) والكتابة (القلم)؟
“لو” التمني الممكن: الكتابة أو الاندثار
لو لم تكن الكتابة ضرورية لما كتب القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. والكتابة هنا قد تكون سواء في الصدور أو في الألواح والمصاحف. لو انعدمت الكتابة لما تسنى لنا نحن قراءة ذلك كله وحفظه والانطلاق منه للتأمل في الكون والآفاق والأنفس والألسنة. طبعا البعض قرأ وتأمل وكتب عن ذلك وغيرها من الأمور التي تفيد الوطن والإنسانية كالأدب و الفلسفة مثلا… المهم هو أنه كَتب بعد زمن قرائي معين. والبعض الآخر ظل حبيس عقدة الكتابة فانقطعت أخباره وآثاره ولمساته في العالم بمجرد وفاته ولم تخلد ذِكْرَاهُ لِغياب كتاباته /إبداعاته  وإن كَثُرَتْ  ‘مقروءاته’!
خاتمة: الوطن يَخْشَى فراغين؛ فراغ القراءة وفراغ الكتابة. والفراغ الأول يخشى الفراغ الثاني والعكس صحيح. مرد ذلك إلى الحاجة الكبيرة للوطن في الاستثمار في الزمن القرائي لأفراده لخلق زمن آخر كتابي/إبداعي لصالحه. الفاعل الأساسي في تلك العملية المشروع(ة) هو القارئ-الكاتب المبدع. لكن الاستغراق الدائم في براديغم القارئ-فقط لا يعدوا أن يكون إحدى آليات هدر الزمن القرائي الوطني وأحد أسباب تعثره الفكري والمعرفي والحضاري.
حمزة الشافعي
Afanour/Maroc

0 commentaires:

إضغط هنا لإضافة تعليق

Enregistrer un commentaire

Blogger Widgets